جوني منيّر
الخميس, 21-آب-2025
خلال الأيام الماضية ارتفعت المخاوف في الشارع اللبناني من احتمال جنوح الوضع الأمني إلى صدام داخلي، وذلك إثر النتائج السلبية للزيارة الجافة للمسؤول الإيراني علي لاريجاني وما تلاها من مواقف حادّة وعالية السقف للأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، وأيضاً زيارة الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك مصطحباً مورغان أورتاغوس، وتكرار تمسّك بلاده بالبرنامج المطروح.
وعلى رغم من رفع مستوى الحذر الأمني لدى بعض البعثات الديبلوماسية العاملة في لبنان وفي طليعتها الطاقم الديبلوماسي الأميركي، إلّا أنّ التقييم الغالب كان باستبعاد لجوء إيران إلى هزّ الإستقرار الأمني الهش الذي يعيشه لبنان لأسباب عدة، أهمها بسبب الكلفة العالية التي ستترتب جراء ذلك، وبالتالي عدم وجود مناخ لبناني داخلي مؤاتٍ، وأيضاً بسبب تكريس معادلة دولية جديدة تظهرت بوضوح أكثر بعد القمة الأميركية ـ الروسية في ألاسكا. وصحيح أنّ العنوان العريض لهذه القمة تمحور حول ملف إنهاء الحرب في أوكرانيا، إلّا أنّ العلاقة مع إيران من خلال الملف النووي كانت حاضرة، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على الواقع اللبناني. فموسكو ستستفيد كثيراً من خاصرتها التي تنزف في أوكرانيا، إضافة إلى استعادة انتعاشها الإقتصادي، فيما إدارة ترامب حققت نقطة ثمينة عبر اجتذاب موسكو من حضن بكين، في تكرار لاستراتيجية «الفصل» التي نفّذها الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون عام 1972، حين حقق انفتاحاً على القيادة الصينية نفّذه هنري كيسنجر، وأدّى ذلك إلى فصل بكين عن موسكو، واحتواء النفوذ القوي للإتحاد السوفياتي يومها.
وفي مقابلة له مع شبكة «فوكس نيوز»، إنتقد ترامب بشدة سياسة سلفه جو بايدن عندما قال: «لقد فعل شيئاً لا يُصدّق، فلقد ساهم في تقريب روسيا من الصين، وهذا ليس حكيماً. فحتى لو كنت طالب تاريخ بسيطاً، فإنّ الشيء الوحيد الذي لا ترغب في فعله هو ما جرى».
وليس سراً أنّ إيران وخلال سعيها في السنوات السابقة إلى تركيز نفوذها في المنطقة، وتحديداً في اتجاه الساحل الشرقي للبحر المتوسط، نسجت علاقة إستراتيجية مع موسكو، بدأها قاسم سليماني في العام 2015، ما أدّى إلى دخول روسي مباشر في الحرب الدائرة في سوريا في 30 أيلول من العام نفسه، وهو ما أنتج إنقلاباً في مسار هذه الحرب التي كانت تهدّد نظام الأسد بالسقوط يومها.
ومع تطور الأوضاع العسكرية في سوريا وتوسع دائرة النفوذ الروسي، تطورت أكثر فأكثر النظرة الإستراتيجية الروسية تجاه سوريا والمنطقة، إنطلاقاً من العلاقة الممتازة التي نشأت بين موسكو وطهران. ففي الوقت الذي رسّخت روسيا مصالحها في البحر المتوسط من خلال قاعدة طرطوس المهمّة، لعبت قاعدة حميميم الجوية دوراً أساسياً في مراقبة ورصد كافة أنواع التحرّكات في الدول المجاورة، وهو ما جعل موسكو تتبادل الخدمات مع كل من طهران ودمشق، في وقت كانت قاعدة أنجرليك الأميركية في تركيا تتولّى وحدها السيطرة الجوية والتنصت والمراقبة لعواصم المنطقة. وعلى سبيل المثال، فإنّ قاعدة حميميم الروسية ساهمت مباشرة في إجهاض محاولة الإنقلاب التي قام بها ضباط في الجيش التركي ضدّ أردوغان، في صيف العام 2016. وفي الوقت نفسه قيّد الوجود الجوي والبحري الروسي الحركة العسكرية التركية، وجعل هامشها أضيق بكثير من السابق. وشكّل ذلك أحد جوانب المصلحة الروسية ـ الإيرانية المشتركة.
وثمة أمثلة أكثر وضوحاً لاستفادة إيران من المظلة العسكرية الروسية. فخلال المعارك الطاحنة التي دارت في شمال سوريا بين المجموعات الموالية لطهران وفي طليعتها «حزب الله» وبين المجموعات التكفيرية، والتي كانت تتغذى من جهات مساعدة موجودة على الأراضي التركية، كانت الطائرات والمدفعية الروسية تؤمّن تغطية نارية هائلة، ما يتيح لمجموعات «حزب الله» صدّ الهجمات والتغلب عليها. ذلك أنّ المجموعات المتشدّدة كانت تمتاز بعاملين: الأول قدرتها اللامحدودة على حشد العناصر القتالية، والثاني شراستها في القتال والنابع من طبيعة «عقيدتها» الدينية. وكانت عناصر «الإيغور» من أشرس المجموعات التي واجهها «حزب الله» في سوريا.
أما النموذج الثاني للمظلّة الأمنية التي كانت تتولاها موسكو لمصلحة تأمين الحماية للنفوذ الإيراني، فكانت عبر تقديم المعلومات الحساسة التي تؤمّنها أجهزة الرصد الروسية والموجودة في قاعدة حميميم الجوية. وعلى سبيل المثال، كانت هنالك غرفة تنسيق مباشرة مجهزة بخطوط تواصل سريعة مع غرفة العمليات السورية، حيث كانت القيادة العسكرية الروسية تبلّغ إلى دمشق لحظة انطلاق الطائرات الحربية الإسرائيلية من قواعدها العسكرية لقصف أهداف في سوريا. وكان التحذير الروسي يتضمن أنواع الطائرات، مما يسهّل معرفة نوعية الهدف الذي تتحرك من أجله. ولا شك في أنّ إسرائيل كانت تعرف ذلك، لكنها في المقابل كانت قد حصلت على «غضّ نظر» روسي تجاه تركها في السماء السورية. أي أنّ سياسة موسكو كانت يومها الإمساك بالعصا من وسطها، وهي ساقت التبريرات التي تسمح لها بنهجها لدى كل من دمشق وتل أبيب. واستمرت موسكو في سياستها هذه حتى مرحلة سقوط بشار الأسد. وعلى سبيل المثال وخلال مرحلة «حرب الإسناد» التي تولاها «حزب الله»، وقبل انفجار الحرب على وسعها في أيلول الماضي، أبلغت غرفة العمليات في حميميم أنّ طائرات من طراز «أف 35» إنطلقت من القاعدة الجوية الإسرائيلية ووجهتها لبنان. وكان ذلك في أواخر شهر تموز من العام 2024. وعلى الفور أبلغت دمشق إلى غرفة عمليات «حزب الله» في حارة حريك في الضاحية الجنوبية بالتحذير الروسي. ذلك أنّ خط اتصال مباشر وسريع كان يربط أيضاً بين غرفتي عمليات الجيش السوري و«حزب الله». ويومها تلقّى فؤاد شكر التحذير بصفته رئيس أركان «حزب الله». وكون الطائرات من نوع «أف 35» المتطورة، كان الإستنتاج بأنّ الأهداف المتوقعة هي إما في البقاع أو على الأراضي السورية القريبة، وأنّها ستطاول مخازن يشتبه بأنّها تحتوي صواريخ نوعية. لكن الغارة يومها إستهدفت غرفة عمليات «حزب الله» في الضاحية بهدف إغتيال شكر نفسه، وهو ما حصل.
والمقصود مما سبق، الإشارة إلى الأهمية القصوى للمظلة العسكرية والأمنية والجوية التي كانت تؤمّنها موسكو لساحات نفوذ إيران في سوريا ولبنان. لكن هذا السلوك الروسي كان قد باشر انعطافته مع سقوط نظام بشار الأسد. وفي الأمس ومع نتائج قمة ألاسكا، تكرّست هذه الإنعطافة الجديدة إثر نسج استراتيجية جديدة ستجد فيها موسكو تموضعاً جديداً في المنطقة. فخلال التحضير لأعمال القمة بين فريقي الرئيسين ترامب وبوتين، استعادت الحركة الجوية الروسية تحليقها ولو بنحو محدود في سماء شمال سوريا. وهو مؤشر واضح إلى حصول تفاهمات مع الأميركيين، سمحت بموجبها القيادة الوسطى للجيش الأميركي «سنتكوم» للطائرات الروسية بتحركات ومهمّات جديدة، ولو أنّها لا تزال محدودة. ولا حاجة إلى كثير من التفكير للإستنتاج بأنّ هذه الحركة الروسية الجديدة بات لديها برنامج عمل ومهمات مختلفة عن السابق.
ربما لذلك كانت زيارة لاريجاني لبيروت، وهو ما فسّره البعض بأنّه للقول بأنّ النفوذ الإيراني لا يزال موجوداً. وهو أيضاً ما يفسّر الرسائل العنيفة التي حملتها كلمة الشيخ نعيم قاسم، وكانت وجهتها المباشرة واشنطن وضمناً التفاهم الأميركي ـ الروسي الجديد. لكن موازين القوى الدولية المستجدة لا تسمح لإيران بسلوك مسار إنتحاري في لبنان. ذلك أنّها تدرك أنّ النتائج لن تقتصر على الساحة اللبنانية، بل إنّها قد تصل إلى ساحات أبعد. فالقيادة الإيرانية والتي ما زالت في طور لملمة آثار الحرب عليها، والسعي لترميم برنامجها النووي، وجدت نفسها ملزمة بالموافقة على العودة إلى مفاوضاتها مع واشنطن حول برنامجها النووي، وسط تصاعد أصوات الأوساط الإيرانية المعترضة على الرهان النووي الإيراني، والذي كلّف إيران أثماناً باهظة من دون حصد أي نتائج إيجابية.
وبالتالي، فإنّ الذهاب في اتجاه خيار استهداف التركيبة الجديدة في لبنان من خلال هزّ الإستقرار الأمني أو الصدام مع الجيش أو هزّ الإستقرار الحكومي، إنما سيكون بمثابة إعلان المواجهة وسط ظروف إقليمية ودولية معاكسة.
أضف إلى ذلك، أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والذي يمرّ في مرحلة داخلية صعبة، قد يكون يبحث عن ثغرة في الجوار تمنحه تبريراً أمام شارعه الداخلي، لتجديد تصعيده العسكري وإنقاذ نفسه وسط تصاعد الحملات المعارضة له بسبب غزة والأسرى لدى حركة «حماس». فالتظاهرات التي حصلت نهاية الأسبوع الماضي في إسرائيل كانت من أكبر التظاهرات منذ بدء الحرب، خصوصاً في تل أبيب، وقُدّرت أعداد المشاركين فيها، حسب عائلات المحتجزين، بأكثر من نصف مليون مشارك، أما في كل أنحاء إسرائيل فقاربت رقم المليون مشارك، في وقت غابت التقديرات الرسمية الإسرائيلية، ما يرجح صحة تقديرات عائلات المحتجزين. أضف إلى ذلك، إنكماش الإقتصاد الإسرائيلي، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3,5%. وهذه المؤشرات قد تدفع رجلاً مسكوناً بهاجس العظمة وتخطّي المكانة التاريخية لمؤسس الكيان الإسرائيلي بن غوريون، إلى الإندفاع في اتجاه استعادة الحرب في الساحات القريبة مثل لبنان. حيث لنتياهو مشاريع توسعية تحظى بتأييد في الشارع الإسرائيلي.
ووفق ما سبق، فإنّ الإنزلاق في اتجاه خطوات متهورة وغير محسوبة سيشكّل كارثة على الجميع، وهو ما يفسّر دعوات رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى عدم الخروج من الحكومة أو ضمناً خلق أزمة سياسية، وعدم اللعب بالشارع، لا بل على العكس الإحتكام للمؤسسة العسكرية اللبنانية.
صحيحٌ أنّ الخطاب السياسي متشنج ودقيق وعالي السقف، لكن لا ترجمة فعلية له على أرض الواقع، كون الحسابات لا تسمح به، إلّا إذا اختار البعض الإنتحار، وهذه مسألة أخرى واحتمالاتها ضعيفة.